طفل صغير عاش يتيما بلا أب أو أم . لطالما نعته معلمه بأنه الشيء الذي لا يصلح لشيء ! قضى ثلاث سنوات في الصف الابتدائي الأول، لم يكن يجيد لا الكتابة ولا القراءة ! كيف له أن يفعل وهو يقضي ليله في البحث عن لقمة العيش. في الصباح، يستيقظ أحيانا وأحيانا لا يستيقظ ليس لأنه أحب حلاوة الفراش وإنما لأنه لم يذقها ! كيف لغير النائم أن يستيقظ ! يدخل الفصل، فينظر التلاميذ إلى ذلك الطفل الكبير الذي يزاحمهم الفصل، كيف حالك جدي ؟ يقول أحدهم، ويرد الآخر كيف حال أحفادك ؟ لا يرد ملعون الحياة بشيء، ليس له الطاقة ليفعل، لا الطاقة للرد ولا الطاقة لتحمل الضرب الذي سيعصف به جراء الكلمات البذيئة التي سيرد بها. ثلاث سنوات من التعاسة، وبعدها فتحوا الباب لجدهم الذي لا يصلح لشيء ! ذات مرة، كان الشيء الذي لا يصلح لشيء قرب مقهى، جلس على الرصيف وأخذ يسترق السمع، ليوهم نفسه أنه فخم لدرجة امتلاك جهاز راديو ... في المقهى، بشريان من أصحاب نظرية العقل السليم في الرأس الكبير ... كانا يتحدثان عن الثقوب السوداء والمومياءات وبؤبؤ العين وفوائد الزعتر ... بطريقة عجيبة غريبة، أصبحا يتحدثان عن أسطورة عبقرية تسمى ألبرت أينشتاين، وعلى أنه يقال بأن هذا العبقري جاء من كوكب بعيد يسمى دادادا وتنبأ بالحرب العالمية الثالثة التي ظهرت قبل حوالي القرنين والتي وصل فيها الإنسان إلى الحضيض حيث اضطرت بعد الدول إلى العودة إلى المنجنيق والتراشق بالحجر للدفاع عن نفسها ! فجأة بدأ العالمان العظيمان يحللان معنى العبقرية بينما الشيء الذي لا يصلح لشيء يستمع إليهما من بعيد ... استظهر أحدهما أحد العبارات المشهورة لهذه الشخصية الأسطورية حينما قال بأنه ليس من العادل أن تقيم امتحانا لكل من السمكة والقرد بهدف تقييم قدراتهما على تسلق الشجرة ! التقط الشيء الذي لا يصلح لشيء هذه العبارة وأغلق عليها بإحكام في ذاكرته، لربما أنا السمكة التي لا تصلح لتسلق الشجرة ! لكنني أصلح للسباحة في المحيط الكبير ! آن الأوان لأقوم وأبرهن للعالم أنني أستحق أن يكون لي مكان فيه ! قام من على الرصيف ثائرا ثم أقسم أن يبرز وجوده للعالم ! في هذه الأثناء، كان العالم مقسما لمنطقتين رئيسيتين وثالثة صغيرة لا محل لها من الإعراب ، وسميت هذه المنطقة بالعالم الرابع . صديقنا الذي لا يصلح لشيء كتب له أن ينتمي للعالم الرابع. كان دائما يردد الطرفة المشهورة آنذاك، العالم باختصار ينقسم لثلاثة أنواع من البشر، أولئك الذين يجيدون العد وأولئك الذين لا يجيدونه. ومن الواضح أن بعد الواحد اثنان، لكن ما بعد الاثنين ماذا ؟ من يدري، قد يكون بعدها الأربعة !
آمن صديقنا بأنه سمكة وأخذ يبحث عن محيط يسبح فيه ... هذا ما يسمى بتصديق الاستعارة ... إنها شعارات جذابة نؤمن بها ثم تصدمنا خيبة الأمل ونكتشف أن النهايات السعيدة حيث يعيش الجميع في سعادة وهناء ، هي صنيعة الأفلام فقط ... لنعد إلى شيئنا الذي لا يصلح لشيء ... حاول تعلم النجارة فقطع أحد أصابعه وفتح الباب في وجهه من جديد ... حاول تعلم صناعة الفخار لكنه لم يصنع إلا الإعاقة، وفتح في الباب في وجهه من جديد ... حاول أن يتعلم التمثيل، لكنه كان مقززا أكثر من اللازم وفتح الباب في وجهه من جديد ... حاول الكثير، لكن الباب كان له بالمرصاد ... أخيرا، عاد للرصيف، وحيدا منهكا من الحياة، جاء ليأخذ فترة استراحة يستمع فيها للراديو اللعين ... هذه المرة، كان في المقهى رجل وحيد، على طاولته إبريق شاي وكأس وحيد وجهاز راديو ... إنه جهاز راديو حقيقي ! أصبح ملعوننا إذن فوق الفخامة نفسها ! إنه الآن يستمع للراديو !
أعار ملعوننا للراديو كلتا أذنيه وأخذ يستمع بخشوع ... نداء ! نداء ! إلى شباننا الأعزاء، أنتم فخر الوطن وعزته نتظر منكم الالتحاق الفوري بصفوف الجيش لدحر العدو ...
من كان ذلك العدو ؟ ملعوننا لا يعرف، وقبل ذلك، هو لا يعرف أصلا معنى الوطن ولا في أي وطن يكون، لكن العزة كانت كلمة جذابة جدا وهكذا اقتحم النداء جوارح ملعوننا وأحس لأول مرة في حياته بأن له معنى في هذه الحياة. قام من على الرصيف فجأة، وصاح بصوت عال : أنا قادم يا وطني ! ثم هم بأن يخطو خطوته الأولى في رحلة الألف ميل، عيناه ملتهبتان كأنهما تحملان قنبلة البدين التي دمرت هيروشيما ... وقفته كأنها وقفة جبل يتحدى الرياح ... في هذه الأثناء، كان صاحب جهاز الراديو ينظر لملعوننا باستغراب ... وبينما ملعوننا يخطو خطوته العظيمة تلك، نسي حفرة المجاري أمامه ووضع رجله في المكان الخطأ ... و هكذا سقط سقطته التاريخية ... رجل في الحفرة ورجل خارجها ويمكنكم تخيل حجم الألم والمسخرة في آن واحد ... لحسن الحظ، قرب الحفرة بقليل يوجد مشفى المدينة، وكأن المشفى بني لأجل الحفرة ... على كل حال، استفاق الشيء الذي لا يصلح لشيء ليجد نفسه في المشفى ... فتح عينيه، فوجد أمامه شخصا أحول يرتدي كمامة زرقاء وبياضا يدل على أنه إما طبيب أو ممرض ... طبعا، ليس شيؤنا الذي لا يصلح لشيء غبيا ليسأل الأحول عن مهنته ... إنه حي ! قال الأحول ... نظر ملعوننا حوله، ثم صرخ : لماذا أتيتم بي إلى هنا ! رد الأحول : لا تقلق يا بني، أغمي عليك من شدة الألم لأنهم تأخروا ليخرجوك من الحفرة، لكنك الآن بخير، مجرد التواء بسيط في ساقك ... قال الملعون : لم تجبني ! لماذا أتيتم بي إلى هنا ؟! هل طلبت منكم ذلك ؟ نظر الأحول إلى ملعوننا باستهجان ثم هم بصفعه صفعة كانت لتكون قوية جدا لولا أن ذا الكمامة الزرقاء أحول ... أهكذا ترد الجميل لمن ينقذ حياتك !
لم يرد ملعوننا بكلمة، أخذ ينظر إلى السطح وهو يفكر في الورطة التي وقع فيها، ثم نظر إلى ذي الكمامة الزرقاء ... هلا أخبرتني سيدي كم فاتورة المشفى ؟ كانت عينا الأحول تشيران إلى أنه ينظر إلى النافذة، لكنه في الآن ذاته كان يحدث ملعوننا ... قال له :
-الثمن ليس باهضا إلى الآن، خمسون دولارا...
-سيدي هلا ترجمت لي الفاتورة بكم كيلو من البطاطس؟
-مئة كيلو بطاطس ...
-وكم تساوي من أواني مغسولة ؟
-لا نتعامل بهذه العملة ...
-تبا لك ! أقصد ... سيدي المحترم، وكم تساوي من يوم في السجن ؟
-شهران على الأكثر لكن إذا أضفت لها كلمة تبا لك أصبحت سنة وشهرين على الأكثر ...
-سنة لأنني قلت تبا لك ؟
-لأنه يسمى تعديا لفظيا على الطاقم الصحي ولأن القاضي ابني ...
-هل جميع النوافذ لها شبابيك حديدية ؟
-أجل، وأمام كل باب تجد حارس أمن، أما بالنسبة لفوهة المكيف فهي أصغر من أن تخرج منها إضافة لذلك الحمامات ليس لها نوافذ.
-حسنا، تخيل لو كان هناك رجل مفلس تماما ... يعني الصفر المطلق ... تماما يعني تماما ... وسقط في حفرة ثم أصبح عليه أن يدفع ثمن إخراجه منها ... بم تنصحه أن يفعل ؟
-يستطيع الإنسان العيش بجزء من الكبد فقط..
-حسنا إذن متى العملية ؟
-بعد أن أتناول غدائي ...
-حسنا، اتفقنا ...
وهكذا بعد يومين، خرج شيؤنا الذي لا يصلح لشيء من المشفى وهو يعرج لكنه كان سعيدا جدا لأنه لم يضطر لدفع فاتورة المشفى ... أخرجوه ليلا ... كانت ليلة مقمرة ، وهو يمشي وحيدا في شوارع المدينة ... قرر أن يذهب للجسر الذي يربط ضفتي النهر ليتأمل انعكاس القمر على الماء ... كان يتأمل صورة القمر بصمت ... فجأة، إذ به يستمع لوقع خطوات خلفه ... صاحبها يتقدم نحوه على مهل لكنه قريب جدا ... لم يملك ملعوننا الوقت ليستدير، بسرعة خاطفة، وقف على سور الجسر وهم بالقفز ... الماء بارد في فصل الشتاء، كاد يبلل نفسه لولا تلك اليد التي سحبته من الخلف.
لا تقفز أيها الغبي، أنا لست من رجال الأمن ...
- كيف عرفت أنني خائف من رجال الأمن إذن ؟
- لأن الكلاب كلها تتشارك في خوفها من صياد الكلاب. كلانا متشردان، والمتشردون يمثلون دنسا يوسخ جمال المدينة ...
- ما الذي جاء بك إلى النهر ؟
- نفس السبب الذي جاء بك، صورة القمر ...
- هل أنت أيضا ترى ان صورة القمر جميلة ؟
- كلا، لا أراها جميلة، لكنها تساعدني على الكتابة، أنا شاعر أو هكذا أرى نفسي ...
- لمن تكتب ؟
- لحبيبتي ...
- هل تركتك ؟
- كلا، ليتها فعلت لكنها الآن تسري في عروقي ...
- هل تحبها ؟
- هل تحب التنويم المغناطيسي ؟
- إذن هي خائنة ...
- كلا، لقد بقيت معي لسنين طويلة، لكنها ماكرة، إنها تحاول اغتيالي ...
- لماذا تحاول قتلك ؟ هل تعاملها بسوء ؟
- لأن جيبي لم يعد يسعها ...
- إذن هي خائنة !
- كلا يا صديقي، عليك ان تفرق بين الخيانة والمكر ! هل تعلم، بعت كبدي لأجلها ...
- إذن لا بد أنها كانت في غاية الجمال ...
- إنها بيضاء كبياض هذا القمر، لكنها مجرد انعكاس لصورة ... انعكاس كاذب ! يا صديقي، صدقني القمر مظلم جدا ولا أقول أنه بشع لظلامه لكن لو فقط أخبرني بالحقيقة لكنت تقبلته كما هو ...
- إذن هي تضع الكثير من مساحيق التجميل ...
- مسحوق أبيض فاتن للعين !
- لا بد أنك اشتريت لها مئة كيلو بطاطس بثمن كبدك !
- هل تمزح ! كان بوسعي أن أشتري خمس مئة مليون كيلو بطاطس بثمن كبدي لكنني أفنيت الخمس مئة ألف دولار كله في حبيبتي
- هل كان كبدك من ذهب ؟
- كلا، كبدي من مثل ما مخلوق به كبدك ... واضح أنه لا فكرة لك يا صديقي عن تجارة الأعضاء ...
- أتعلم يا صديقي، ليتني فقط التقيت بك قبل أن أسقط في الحفرة !
- إذن أنت مثلي يا صديقي مقطوع الكبد، وأنت أيضا ضحية عملية نصب ... أهلا بك في عالم الملاعين !
- ما الذي فعلته تلك الماكرة بثمن كبدك ؟
- أخذت تتسرب إلى عروقي شيئا فشيئا، وكل يوم تطلب المزيد ...
- تبا لها ! لماذا لا تتخلى عنها ببساطة ؟
- لا أستطيع، إنه التنويم المغناطيسي !
- هل أقتلها لأجلك ؟ ما اسمها ؟
- اسمها الهيروين، ولو كانت امرأة لقتلتها من زمان ... هل تجيد السباحة ؟
- كلا
- ولم أيها المعتوه هممت بالقفز، ألا تعرف أنك حينها ستغرق ؟
- رد فعل طبيعي ممن يقف الموت المحتم خلفه وأمامه احتمالية الموت فقط ...
- ما كان سيغرقك لو قفزت ؟
- الماء
- هل يمكن للماء أن يغرق السمك ؟
- طبعا لا، الأسماك لا تغرق ...
- بل تغرق يا صديقي، الجميع يغرقون ... لكن كل وما يغرقه ... تغرق الطيور إذا سقطت في الماء وتغرق الأسماك إذا سقطت في السماء ويغرق الإنسان إذا سقط في الإدمان ...
- إدمان الهيروين ؟
- ليس بالضرورة يا صديقي، بصفة عامة عندما يدمن المرء فكرة فهي تغرقه ... ليتني يا صديقي محشو بالهروين وحسب !
- ما الذي سيحشوك أسوأ من ذلك ؟
- قنبلة !
- أية قنبلة ؟
- تلك التي كادت تفجر المدينة لولاك يا معتوه !
- لحظة، هل أفهم من كلامك أنني بطل ؟ هل أخيرا أنا السمكة التي تسبح في المحيط ؟
- كلا أيها الأبله، كل ما في الأمر، أن غباءك بمحاولة السقوط جعلني أعيد النظر في أشياء كثيرة وقررت ألا أنفجر هنا !
- هل متأكد من أنك لست مخمورا في هاته اللحظة ؟
- صديقي، لست مخمورا لكن أحس كأنني وأنت، شخصيتان ابتدعهما قلم من شخص واحد منفصم ...أنا وأنت واحد ! الفرق أنه لا زال لديك دور في المسرحية، أما أنا فعلي أن أعلن انسحابي ... كي لا نكثر من الفضفضة، باختصار يا صديقي، في جسمي الآن كبسولة صغيرة بداخلها قنبلة موقوتة ستنفجر بعد حوالي الربع ساعة ... لو بقينا نثرثر هنا سأنفجر وأفجر معي المئة شخص الذين أردت جرهم معي. خططنا لذلك لسنوات ... اقتنعت تماما أنهم لا يستحقون الحياة، لكن رؤيتك تحاول القفز فتحت بصيرتي للحظة ... أنا أجيد السباحة، لكنني لن أفعل الآن، ليس الماء ما سيغرقني بل هي فكرة ...
دعني أخبرك بكلمات اعتبرها كلمات وداع مني قبل أن أنهي الأمر ...
ارسم نافذة بلا شباك، وردة بلا أشواك، سماء وردية، أرضا ندية، غيثا ساريا، دفئا شافيا، بيتا من حب، فيضا من جب، أرسم إلى أن ينفذ حبرك ثم كن عصفورا وحلق من نافذتك إلى وطنك !
الحدود التي يرسمها البشر بين الدول تستطيع أن تحول دون مرور أكبر الطائرات لكنها لا تستطيع أن تمنع العصفور الصغير من المرور... العصفور الشريد لا يعترف بالحبر الذي يخطه سادة الدول... العصفور الشريد لا يمنعه من التحليق لا تلك الأعمدة الخراسانية ولا تلك الأسلاك الشائكة... لا تلك البنادق المتأهبة ولا تلك الرادارات المتربصة... العصفور الشريد لا يأبه بالتهديد والوعيد ... العواصف تعصف وتشتد، الحروب تندلع وتثور، خرائط العالم بين ممحاة وقلم... لكن فوق كل ذلك يتعالى العصفور الصغير ويحلق إلى البعيد، إلى ما وراء الأسوار، إلى ما وراء المحظور ! في رحلته للبحث عن الوطن. وطن لا تعرفه الخطوط الوهمية. وطن الطير الصغير هو ذلك المكان في اللامكان حيث لا يمكن للبشر أن يحشروا أنفوفهم ولا بنادقهم ... أما بعد
وداعا يا مقطوع الكبد ... سأموت لكن عدني بأن تعيش !
قفز بائع المخدرات أمامي ولم أستطع إيقافه، للدقة لم أستطع أن أحاول ... إنه قنبلة موقوتة، لكن في الآن ذاته هو اليد التي أنقذت حياة مقطوع الكبد ... ما الذي جعله ينقذني إن كان قد اقتنع بأنهم لا يستحقون الحياة لسنوات ؟
لم يمض كثير من الوقت قبل أن أرى الارتعاشة الصغيرة على ماء النهر ...مات بائع المخدرات ... لم يعد مقطوع الكبد وحسب ... أصبح نفسه قطعا متناثرة في قاع النهر ... أخذت حينها أنظر إلى القمر. ماذا عساي أفعل ؟ سلبوا مني كبدي وقبل ذلك سلبوا مني مشاعري كإنسان. لا أستطيع ذرف الدموع على صديقي ... الصديق الوحيد الذي وهبتنيه الحياة أخذته مني كذلك ... أخذته مني قبل أن أسأله عن اسمه ... كل ما عرفته عنه أنه بائع المخدرات ...كل ما عرفته عنه أنه العاشق بدون عشق ! الشيء الذي لا يصلح لشيء يسألكيا صديقي ما اسمك ؟ رجاء عد وأخبرني باسمك فقط !
بت الليلة على ضفة النهر، لا أدري كيف أخذني النوم رغم صواعق الألم الذي عشته ... لكنني على كل حال استيقظت على ومضات من شعاع الشمس وهمسات أنين خافت. فتحت عيني لأجد بقربي طفلا صغيرا في نحيب هادئ. ذلك النحيب الأليم الذي يرهق صاحبه في صمت ... اقتربت منه وإذ به يحمل عصفورا جريحا. لا إراديا، أخذت العصفور من حضنه، مزقت جزءا من ردائي وضمدت جرحه ثم لأول مرة في حياتي خرج من فيهي صوت حان يقول : بني لا تقلق، هو جرح صغير سيندمل، وإن هي أيام ويعود صديقك للتحليق عاليا. ارتسمت على محيا الصغير ابتسامة ساحرة ودونما سابق إنذار أقبل علي يضمني ضمة لم أتذوق كدفئها في حياتي، ثم قال : عمي .. أنت بالنسبة لي، أنت ... أنت “كل شيء“ ! في هذه اللحظة، أحسست بالدم يجري في عروقي بشكل مختلف عن سابق جريانه ! أحسست بالهواء في رئتي ينساب بشكل مختلف عن سابق انسيابه ! كأنني عصفور بجناحين تحلقان في أرض لا حدود لها ... أصبحت أيضا عاشقا بلا عشق ! عاشقا من نوع آخر ! عاشقا لتلك اللحظة، لتلك الكلمة، لذلك الطفل ... سُلبت من قطعة مني وغدا صديقي قطعا كثيرة مبعثرة لكنني الآن أضم كل قطعة منه في جوفي، أخيطها بخيط من حب دافئ، وسأحلق بها عاليا إلى حيث يقبع الوطن الحقيقي ... حيث اسم كل منا “كل شيء “ ...