أخاف. أخاف على ثرائك من قيودي، على شساعتك من ضيق أفقي، على جمالك من فوضاي وعلى رقة مشاعرك من برودي ولا مبالاتي. قد أكسرك، من غير قصد، وأنت في أمس حاجتك الى الضم. وفي محاولة من محاولاتي الفاشلة لصناعة المرح، قد أشغل أغنية وأحرك كتفيك لأدعوك الى الرقص وأنت إلى السكون والهدوء تتوقين.
لا أقبل أن أمارس عليك حبا مسموما يكون طرفه الأول سفاحا والثاني ضحية. فيكون شأنك شأن معشوقة اغتيلت خنقا على يدي عاشقها من فرط غيرته عليها أو قطة صغيرة ابتلعتها أمها لو حدق بها خطر أو فتاة شرقية سجنها والدها في قفص ذهبي خشية عليها من وحشية العالم فباتت تشاهد من خلف قضبانه مرور حياتها التي لا دور لها فيها، كمفعول به لا يحلم بشيء سوى التحرر من وطأة فاعل ليشغل مواقع إعراب أخرى.
لكم أغار من صلاحيات حروف الجر وأعطف على مجرورها وأحسد حروف النفي على وقارها وأشفق على أفعالها المنتقصة شرعيتها. أما الممنوعات من الصرف فهي وحدها استطاعت أن ترث النفوذ دون أن تورث غيرها طغيانا فاحتمت بقلعة منيعة نادرا ما تخترقها انقلاباتنا وصراعاتنا.
ملكتنا جميعا أنتِ. لطالما وبختِ العدد والمعدود على فذلكتهما المفرطة واستنكرتِ انطوائية المضاف والمضاف إليه، التوأم اللصيق، على حد تعبيرك. كثيرة كانت إرشاداتكِ ونصائحكِ لنا وضئيلة كانت التغييرات. فكيف للحاكم أن يرضى بغير دور البطولة وكيف للمحكوم أن يتحمل المزيد من الدكتاتورية؟
“-“واليوم، يقول ريان فاعل بصوت يخلو من الحماس، دعونا ننسى خلافاتنا ونحتفل بعيد اللغة العربية ثم يصمت برهة ريثما تهدأ أصوات الجماهير، لنرحب جميعا بماجدة مفعول“. ثم يرمقني بنظرة قاسية تبشر بفشل ذريع.
أسير نحو خشبة المسرح مرتبكة ومتعرقة وبين يدي شبه نص كتبته بمناسبة عيدٍك وأنتِ في الصف الأول تبثين الطمأنينة في نفسي بنظراتك الحنونة وتشجعينني بإماءة من رأسك.
-“حبرا وورقا.... المعذرة...حبر ٌوورقٌ وأفكار ٌمكبوتة تفتح ذراعيها لتعانق الفضاء الأبيض. هكذا دشنت الثلاثين من عمري راجية القلم المسكين أن يضمد أحلاما ضائعة بإنتاج أدبي......“
-“موهوبة جدا لولا بدايتها المتعثرة، يقاطعني ريان بصوت مرتفع، تصفيق .... تصفيق“.
أغادر خشبة المسرح كاتمة بركانا من السخط بعد جرعة من الإهانة تلقيتها من فاعلي. فهل يحق لمصنوع أن يغضب من صانعه دون أن يخوَّن ويكفَّر ويُحاكم بل ويُعدم بتهمة الإلحاد؟
“عيب“ ستقولين لو أنا جرأت على إبداء رغبة في التغيير. عيب، أكثر كلمة رُددت على مسامعي، هذه اللعينة وحدة قياس الشرف وعملة الأخلاق ومحرار الأصالة. كائن شفاف يندس بين جموعنا فيرسم حدودا لحميمية العشاق ويوسع سلطة الآباء ويقلص صلاحيات الأبناء أما نحويا فهو يرفع المذكر ويكسر المؤنث.
تتتبعين خطواتي المتثاقلة وتلقين علي التحية بينما أنا غارقة في إعراب العيب. تربتين على كتفي وترددين جملتك الشهيرة: “ لا بد لكل منكم أن يلتزم بموقع إعرابه الذي حدد بناء على شخصيته، فأنت يا صغيرتي لا قدرة لك على تبوء منصب غير هذا، أنت حساسة ورقيقة وحرصا منا على سلامتك وضعناك تحت وصاية الفاعل“
تتسابق الكلمات بداخلي للدفاع عن حقي المهضوم غير أنها تظل حبيسة الجبن والخجل فلا أنبس بكلمة. يلتحق بنا ريان وينطق نيابة عن لساني المشلول: -“ما أكثر تواضع جلالتك، تتركين مشاغل الدولة لتهتمي بمشاعرنا“.
–أنتم الدولة، فسلامتنا من سلامتكم، أرجو أن تكون ألطف معها يا ريان، لا تزيدوني هما على همي.
هممتِ بالانصراف بعدما ألقيتِ بتحذير مبطن أشعرَه بالحرج الشديد أمام مفعوله فصار يتأفف ويُعرٍب عن خيبة ظنه الأبدية تجاهي فهو كجميع أبناء المملكة ينزعج من الفضائح.
-ما الذي تطمحين إليه وأنتِ غير مؤهلة حتى لقراءة نص من تأليفك؟ كنت أعلم بأنك ستتلعثمين وتتعثرين ورغم ذلك لم أحرمك من فرصتك فبدلا من أن تشكريني رحت تشتكين من قسوتي؟
-“لم تدعني أكمل نصي“ ، قلت بتردد فانقض علي كصياد على فريسته.
-“ألم تكتفِ بأدائك السيء؟ من كان بمثل رداءتك فلا حق له في المجادلة. ...غبية....“ قال وهو يضرب الحائط بيديه ثم استدار مغادرا من دون سابق انذار.
************
استيقظت متأخرة وقليلة النشاط بعد ليلة لا تختلف عن سابقاتها في شيء. في طقوس ما قبل النوم، أرتب المعضلات وأصف حلولا ترهقني تفاصيلها ثم أعجب بعبقرتيها لكنها تظل حبيسة الخيال فتتلبد سمائي بالغيوم دون أن تعد بشمس مشرقة.
أتمدد وأنا أحدق في السقف ثم أتذكر موعدي مع لطيف مجرور فتداعبني رغبة في الرجوع إلى النوم. يرتسم وجهه البريء في مخيلتي فيؤنبني ضميري وأجبر نفسي على مغادرة أحب مكان الى قلبي. أجر خطاي وسط فوضى عارمة أشبه بمخلفات عاصفة، أكوام من الملابس يصل ارتفاعها الى بطني، أحذية في كل مكان كثيرا ما أكون شاردة الذهن فتكون سببا في تعثري، أما ذلك الدولاب فمن اجتنبه اتقى شره قد تنهال على من يغامر بفتحه أشياء ثقيلة أو حادة تعاجزت عن وضعها في مكانها المناسب فألقيت بها في أبعد ركن. فوضى استطعت أن أشق طريقي من خلالها الى الحمام فقابلتني اخرى عكستها المرآة. خراب لا يمكن إزاحته. يبدو أنها أنا، بحسبها هي، فهي التي صورتني بشعر أسود خفيف و بشرة قريبة إلى الاصفرار وأنف مفلطح وقامة قصيرة وجسم ممتلئ ، فمن دونها ما استطعنا التعرف الى هويتنا الظاهرية ولربما كان ذلك أفضل فتكون انعكاساتنا رهينة معزتنا لدى الأشخاص. فقد يختلف بعض الناس في تقييم جمالنا ويتعاطف آخرون مع قبحنا ويجملونه ويجاملونه أما هذه فتقف بكل جمود، مكتوفة اليدين أمام المشهد الدرامي الذي تنتجه. أنا لا أطلب منها استبدالي بأخرى، أبدًا، إنها رغبة دفينة أحتفظ بها لنفسي، لكن أن تقوم ببعض اللمسات والتعديلات لرفع معنويات الشخص، لا غير، قبل أن ينطلق يومنا ونقابل ريان فاعل وأمثاله.
-“ألا يمكنها أن تصورني بشعر أكثر كثافة ...لا أدري ...جسم أطول، أكثر رشاقة مثلا...أنا طبعا أتحدث عن انعكاس مختلف وليس عن مظهر مختلف.....“.....
تنبعث فجأة رائحة احتراق البيض، فأدرك أني في شجار مع مرآة، أحرك يدي في كل الاتجاهات وأهز رأسي بانفعال وأشدد اللهجة وأهددها بأصبعي لعلني أكتسب شيئا من الكاريزما في مشهد سخيف للغاية.
وهذا البيض من الذي وضعه فوق النار؟ ليس فاعلنا طبعا فهو لا تصدر عنه حركات غبية كهذه، هو دائم التركيز، هذه حركات تشبهني أنا. لكن متى وضعته وأنا قد استيقظت للتو؟ لا شك أنني قمت بهذه العملية بين شوطين من المحادثات المطولة مع الفوضى، فوضى الغرفة بهدف وقف العدوان، أتهمها بعرقلة سيري فتتهمني بتهجيرها من منطقتها. ففشلنا في التوقيع على مذكرة تفاهم. وها أنا أغرق من جديد في تفاهات تلتهم وقتي وتمتص تركيزي وتغيبني عن العالم.
ألقي نظرة الى الساعة التي تطرح علي معضلة الانضباط في المواعيد على حساب لياقة المظهر أم العكس؟ فإما أن أنطلق فورا بشعر منكوش وعمش يحيط بعيني وثياب ملطخة ببقع زيتية أو أن أتأخر عن الموعد.... لا يا ساعة، رجاء، الفوضى والمرآة ثم أنت، إرحمينا، رجاءً، إنه موضوع يحفز ثرثرة صامتة مع الذات نحن في غنى عنها.
انطلقت مهرولة نحو مكان موعدنا أركض بسرعة جنونية اهتزت لها الأرض واكتسى فستاني بالطين على إثرها لكن لا بأس، المهم ألا يضاف عدم الالتزام بالمواعيد الى قائمتي المزدحمة بالعيوب. نظرات الإخوة تخترقني كالسهام أثناء عدوي. امرأة بلا شرف تجري في الشارع لتلفت الأنظار. أحيي “كان“، بائع الخضر، فيدير وجهه مستحيا كأنه أمام مشهد مخل بالحياء. الحياء، تلك الصفة الحميدة برأي الإخوة، الموجعة بتقديري، أو لنقل متناقضة ومزدوجة، تؤلم صاحبها وتخدم غيره.
فالحيي يختزل رغباته، طموحاته وذاته لإرضاء محيطه الذي يتلذذ بتضحياته ويطلب المزيد منها. على كلّ، فالحياء صفة نابعة من احساس بالنقص. ومن أطلقت عليه صفة “مفعول ناقص“ لابد أن يكون كذلك وأنا أحملكِ المسؤولية كاملة في توزيعٍ غير عادل للأدوار، فأيُّ أمٍ تطلق على ابنٍ صفة الكمال وعلى آخر صفة النقص؟
أواصل سباقي فأصادف “عرفة“ وهو يتبختر كعادته ويتحسس بين الحين والآخر عضلات صدره البارزة من خلال قميص ضيق وشبه شفاف. عجبا له ولكل ممارسي رياضة كمال الأجسام! هل يخافون أن تسقط عضلاتهم أو يتوقعون أن تتضخم بين ثانية وأخرى فيراقبون نموها بشكل لحظي؟
يقال لكل شخص يطمح في الشهرة أن يتقرب من “عرفة“ فوظيفته؟ ...احزروا ...التعريف طبعا! ...وزاده حسن مظهره غرورا فتخيلوا المشهد.
وقع نظره علي فاصطنع الدهشة وتمايل يمينا وشد ذقنه في حركة من حركاته الاستعراضية وصاح مستجديا انتباه المملكة بأكملها: “على مهلك، سوف تتسببين في كارثة! “ ، فانتصر غروره على ثقتي الهشة بنفسي وارتطمت ب“لمى بنت جزم“ ، الراقصة الجميلة وهي تشتري قماشا حريريا فتلطخ بالطين . عقد الارتباك لساني واستسلمت لوابل شتائمها التي كانت أخف على قلبي من سخريات عرفة وضحكته المزعجة. بقيتُ للحظات ساكنة أستحضر لقطة الارتطام المخزية وفي مثل هذه اللحظات لا يسعني الا أن أثور ضد قواعدِكِ ومنظومتِكِ وحكمِكِ. ثورةٌ راكدة طبعا، فأرفع اللافتات وأصرخ بأعلى صوت وأغلق الشوارع في مخيلتي وألوذ بصمت جبان في الواقع وبينما كنت أنقلب ضد الحكم وأسقط أنظمة ديكتاتورية وأؤسس محلها أنظمة ديمقراطية كان صوت لمى لايزال يهز الشارع ولم يفلح المارة في إخماد غضبها.
“البنت لم تقصد الاساءة إليك“ ، يقول أحدهُم ، بدى لي من صوته الخافت أنه من الضمائر المستترة. -
ـ“بلى، كل البنات متآمرات ضدي، يحسدن جمالي “ ، تقول لمى بيقينها المعهود وهي تداعب شعرها.
أما أنا، فلم أقل شيئا فالكلمةُ طفلٌ ضائعٌ، تائهٌ مالم تلق مستمعا، لذا أفضل أن أكتمها وأدعها تنعم بحضني.
قمتُ أخيرا من مكان الحادثة وأكملت ما تبقى من مشواري وأنا أعرج فوصلت تقريبا في ميعادي وقابلني لطيف بوجه تطل من ملامحه علامات استفهام وتعجب وبعد أن طمأنتُه، راح يفاجئني بجرأة لا عهد لي به.
سألته : “هل حاولت أن تطلب منها ترقية؟“
أجابني مضيفا :- “فكرت في ذلك ولم أقدم على شيء ...ماذا لو قمنا بالخطوة مع بعض ...وسندعو الأفعال الناقصة كذلك الى الانضمام الى قضيتنا ...ما رأيك؟
ـ“سيطلع فاعل على الموضوع وينتقم“
-“وحروف الجر أيضا لا تقل فظاعة لكن ألم يحن الوقت لكسر قيود الخوف؟ ليكن هذا المكان نقطة التحول، نقطة الانطلاق “ فسيطر على صوته الحماس وقام من مكانه يصرخ ويرتجل شعارات مظاهرات ويتلفظ بكلمات بذيئة لا تناسب شخصيته. وفجأة توقف مذعورا وبدأ يتأتأ محاولا شرح الموقف فالتفتتُ واذا ب“منى“ ، أشرس حروف الجر، ترمقه بنظرة، فهِم كلٌ منَّا عواقبها فتحول لطيف على اثرها من ثائر إلى متملقٍ يقبل يد سيده ملتمسا رحمته. سحبت منى يدها وتوعدته بأشد عقوبة ثم وجهت نظرها صوبي رافعة حاجبها تريد أن تكتسحني بقمعها فكبِحها، من دون شك، نفوذ الفاعل في المملكة. فهو غيور، لا يقبل أن يتطاول غيرُه عليَّ.
غادرتنا أخيرا مخلفة حرجا رهيبا وصمتا مطبقا حاول لطيف كسره بأعذار زادت الموقف سخافة. بقيت صامتة للحظات أخاطبه بنظراتي، أتضامن معه تارة وألمح له الى عدم جدوى ثورتِه تارة أخرى لكن احباطه الشديد حال دون استقباله لإشاراتي فقمت من نقطة انطلاق ثورته المجهضة وودعته ورحت أستحضر الموقف المخزي وأتساءل إذا تم تزويد الحكام بقدرات خارقة حتى يتمكنوا من اقتلاع بذرة التمرد فور نباتها في عقولنا، فما الذي جاء بمنى في ذلك المكان والتوقيت إن لم تكن رائحة العصيان؟
وصلتُ إلى البيت فوجدته ينتظرني بوجهٍ ثائر، يده اليمنى على خصره والثانية تقرع الطاولة بوتيرة متسارعة وقوة متزايدة. وقفت هادئة، أنتظر انفجار البركان على وجهي.
ـ“تتآمرون علينا؟ “قال بصوت منفعل دون أن يستفسر حول ثيابي المتسخة.
ـ“أبهذه السرعة تنتقل الأخبار؟ “استغربت دون أن أنفي التهمة فهو لن يصدقني مهما شرحت وأكَّدت وقَسَمْت.
*************
اجتماع طارئ، قلق، ارتباك وتساؤلات. استدعيتِنا في حديقة قصرِك لدراسة موضوع شغل بالَك وبال المملكة. جلسنا صفين، كل واحدٍ حسب طبقته اللغوية. فالفاعل وحروف الجر والنصب والجزم وغيرهم من المناصب الحاكمة في صفكِ، يقابلكم ما تبقى من اللغة، نحن، ننتظر صدورَ قرارتكم لتدوينها وأوامركم لتنفيذها. وككل اجتماعاتنا، يعم الصخب والفوضى ويتأخر موعد انطلاق الجلسة بسبب شراهة ريان فاعل، فدائما ما يطلب المزيد من القهوة والحلويات. حتى نصائح لمى الراقصة -التي لم يطلبها أحد -للحصول على جسم مثالي وبشرة ناعمة لا تخدم انضباط لقاءاتنا. في اجتماعاتنا التي كنتٌ أحضرٌها على مضض، تُذوَب الأحقاد في أكواب الشاي وتحاك المؤامرات بخيوط حريرية. تبتسم لي منى بمكر وتسألني عن صحتي وكأن شيئا لم يكن وهي من أطلقت صافرة الإنذار وحرضت الاخوة ضد لطيف. صحيح! أين اختفى؟ رحت أتجول بنظري في القاعة. لا أثر له.
تبدين منفعلة على غير عادتِك وابتسامتُك لا تشع حبا وحنانا كما ألفتُها. تستهلين كلمتَك بالتذكير بالثوابت التي لا تقبلين المساس بها.
“لكلٍ منا ثوابت مختلفة“ ، قلت في قرارة نفسي لكن ريان اقترب مني و همس في اذني: -“متى ستقلعين عن هذه العادة السيئة يا مجنونة؟ تتحدثين مع نفسك؟ فضحتنا !
-“كم من مرة قلت لكم أنني في الاستماع الى مشاكلكم؟ الحوار السلمي يا جماعة، لا نريد خلافات“، واصلتِ حديثك.
اقتحم لطيف الحديقة باكيا ملتمسا براءته: -“أنتم لم تفهموا قصدي، أنا أردت تغييرا لا أكثر“
-“لا تخف، طمأنتِه، لن نقيلك من منصبِك، سنكتفي بعزلك عن وظيفتك لمدة شهر حتى تراجع نفسك، لكن نريد أن نستمع الى مشاغلك، تفضل.“
أدارت منى وجهها تجاهلا لما سيقوله وحذت بقية حروف الجر حذوها، كلٌ على طريقته، فإلي يرفع عيناه الى السماء في اشارة الى نفاذ صبره وعنتر يتأفف وعلي يستسلم لرغبته في النوم فيتصاعد صوت شخيره مثيرا ضحك الإخوة وغضبك فتأمرينه بالخروج من الحديقة لكنك لا تخصمين ولو مبلغا رمزيا من راتبه لمعاقبته على استهتاره.
تتواصل المحاكمة اللغوية للطيف بعدما وضّح رغبته في شغل مناصب مسؤولية، مما أشغل حنق حروف الجر وأثار خوف أصحاب المناصب الحاكمة على انتقال عدوى الاحتجاجات الي محكوميهم . تُسكتين الغوغاء بحركة من يدك وتعلنين أنكِ ستستأنفين الجلسة بعد دراسة اقتراحاتنا التي طلبت منا أن ندوِّنها على قصاصات أوراق نسلمها اليك وكأنك لا تعرفين ما يجول بخاطرنا. تمت العملية بعد تذمر البعض وتكاسل البعض الآخر فانفردت بأوراقنا لبضعة دقائق فقط وكأنها كانت خالية من الاقتراحات ثم رجعتِ بمزاج أفضل وأثنيتِ على فكرتي أمام الملء.
ماجدة مفعول ، إطرحي أفكارك على الإخوة “، قلتِ بتفاؤل قابلتُه بتردد. “هيَّا، انطلقي “، شجعتِني.
ابتعدت بنظري وبعقلي ما استطعت عن ريان كي أستجمع أفكاري المبعثرة وبدأت أتنحنح كي أشحن صوتي. ولكي أكسب تعاطف الحاكمين. بدأت كلامي بالكشف عن نقاط ضعفي: - “أنا أوَّد أن أصبح كاتبة وكما تعلمون اتقان اللغة في هذا المجال ضروري لكنني وبحكم وظيفتي اللغوية كثيرا ما أنصب المجرور والمضموم وقد تمرون بهذه الحالة كذلك“ ...أنظر الى الإخوة لأستمد منهم طاقة وتشجيعا فأجدهم يهزون رأسهم نفياً....“على كلٍّ“، واصلت ممتعضة وقلبي يزداد خفقا كلما اقتربت من طرح الفكرة الرئيسية...“أعتقد أن استبدال الأدوار بين الإخوة ولو لمدة قصيرة سيعم بمنفعته على الجميع. “
-“ممتاز يا ماجدة ، استلمتِ مني الكلمة، سيعيش كل واحد منكم مكان الآخر وبذلك سنحقق هدفين تحصين لغوي من جهة وتعايش سلمي من جهة أخرى. لكن المسألة تتطلب وقتا فألقاكم في اجتماعنا اللاحق“.
الصدمة تخيم على الجلسة. الحكام ينحبون في صمت والمحكومون منقسمون بين متفائل وخائف من ثأر سيِّده، أما أنا فلا أكاد أصدق أنني نلت ثقتِك. وها هو استبدال الأدوار يدخل حيز التنفيذ للتو فلأول مرة أرفع رأسي بفخر وريان يديره، أنا شاخصة إليه وهو يتجنب النظر إلي.
******
يبدو أن بعض الإخوة قرروا مقاطعة أول جلسة لدورة استبدال الأدوار. سابقة من نوعها. ف“خلافاتنا لا تهدد وحدتنا“ ، شعار كثيرا ما رددناه .لاوجود للمى الراقصة .قيل أنها اصيبت بالحمى . أما منى فقد أمضت ثلاثة أيام، أي منذ الاعلان المفاجئ عن انطلاق هذا البرنامج، من دون أكل فأصيبت بغيبوبة.
تتظاهرين بالسيطرة على الوضع لكنني على يقين أنك متوترة للغاية، غير مطمئنة على أبنائك، خاصة الحكام منهم، فأنت تفضلينهم علينا، مهما حاولتِ إنكار ذلك.
بالنسبة للفاعل فأحيانا يكون متعديا وأحيانا لازما، في الحالة الثانية لا يحتاج لماجدة مفعول فيمكنها أن تجرب وظيفة جديدة “نائب الفاعل“ ، اختيرت خصيصا لها، تشرحين بابتسامة عريضة. في ردة فعل جماعية، نلتفت كلنا إلى ريان لنطمئن على سلامته. خير ما فعلناه، فقد كان يضع يده على قلبه وجبينه يتصبب عرقا.
-“ريان، أنت ستحتفظ في كل الأحوال بوظيفتك فلا تنهار رجاء “، تخبرينه بتهكم زاد من تأزم وضعه فطلب مغادرة الجلسة. تتابعين خروجه بنظرك فيتشتت تركيزك. أتواصلين الجلسة بثلاثة غائبين أو لِنقُل مقاطعين؟ صعب عليك لكنَّكِ تتحمسين وتوزعين على الحاضرين بقية أدوارهم. المضاف والمضاف إليه منزويان يستعدان لقلب أدوارهما فيما بينهما فتنبهينهما إلى الاستعداد في مرحلة قادمة إلى تجريب مواقع أخرى للانفتاح أكثر على الآخرين. لا يروقهما الاقتراح ولكنهما يهزان رأسيهما ايجابا بخجل. أما عرفة، فشارد الذهن والبصر لا يتصور حياته خارج نطاق النجومية ولو للحظات لدرجة أنك لما طلبتِ منه أن يستعد لآداء دور النكرة أجهش بالبكاء في مشهد يتناقض مع عضلاته الضخمة وطول قامته. حدث كفيل بإنهاء يومنا التدريبي. بإشارة منك، تنفض الجلسة ونخرج جميعا من القاعة. ألقي عليكِ نظرة أخيرة وأنت ِتحضنين مدللكِ عرفة وتداعبين شعره فتنتابني الغيرة.
-“بداية الانتصار“، يحييني لطيف الذي سُمح له بالاستفادة من التدريب رغم عقوبته.
-“بل نهايته“ ، أجبته.
-“أعتقد أننا نعيش لحظات تاريخية لكن تشاؤمك للأسف يحجب عنك كل ماهو جميل“ ، صارحني.
اكتفيت بتنهيدة ثم غيَّرت الموضوع حتى لا أعكِّر أحلامه وسعادته.
*******
“كآبة مزمنة ومعدية, لا حاجة الى تشخيص طبيب نفسي. يكفي أن أعراض الاحباط تصيب كل من يجالسني فتلازم الحيرة ملامحه وتغزو الأفكار السوداوية عقله ثم تسري خيبة الأمل في دمه فتجفف طاقته الايجابية واقباله على الحياة .بدأ الأصدقاء ينفضون من حولي الواحد تلو الآخر .لا ألومهم فحتى أنا انفضضت من حول نفسي...حاولت ...تحاشيت النظر الى نفسي في المرآة فصارت تلاحقني نسخ مكررة منها في كل ركن وزاوية .تجاهلت تلك الشتائم الأبوية التي كانت تتلى علي صباحا وظهرا وعصرا ومغربا حتى صارت قطعة من جسدي فانتقمت مضاعفة أصواتها وأسواطها .غضضت الطرف عن ذلك الخوف الذي دسته أمي في فطوري وغدائي وعشاءي فأصاب العطل عقلي وجسدي“
أكملت قراءة نصي في حديقتِك وأنا أتوسط الإخوة. فيقومون ويصفقون بحرارة لم أعهدها. هذه المرة، لم أتلعثم ولم أتردد. لا ريان يربكني ولا خجل يعقيني. تلتحقين بي على خشبة المسرح وفي عينيك مزيج من الحزن والإعجاب. تمسكين بيدي ثم تهمسين في أذني: -“أنا فخورة بكِ“ “
ولما أقبل الجميع على توديعي طلبتُ الكلمة مرةً أخرى بكل جرأة.
-“قد تكون نهاية مسيرتي اللغوية بعدما استقلت من وظيفة المفعول و لكنها انطلاقة مسيرتي المهنية ككاتبة. لا أفشي سرا لو أخبرتكم أنني أزحت ثقلا كبيرا من فوق قلبي بهذا القرار ومن هذه المنصة أريد أن أوجِّه رسالة الى كل الإخوة اللذين لا يشعرون بأريحية في وظائفهم اللغوية. يمكنكم الانضمام الى من لا محل لهم من الإعراب فنحن اليوم أربعة وأنا متأكدة أن حركتنا ستشمل المزيد من الإخوة.“...
يعم الحرج والدهشة الجماعة ويسألونني عن أسماء المنشقين الجدد. أبتسمُ بكل ثقة وأتركهم في حيرتهم وأنا ماضية نحو وجهتي الجديدة.