قبلة غير متوقعة
في ذلك الوادي الجميع يقبل رأس الشيخ، الكبار قبْل الصغار، رعاة الإبل، المزارعون، سراق البهائم، أئمة المساجد كلهم على حد سواء... منهم من تفرد بطقس خاص به في تقبيل الشيخ، كأن يقبل الشيخ ويحني رأسه مع كل قبلة، وآخر يقبل كفي الشيخ بحركة سريعة كموسع موسيقي، وأما فمه فيلوك كلامًا بُترت معانيه من قبيل
“الله يزود بعمرك واشيخنا“ تتباين كلمات المديح من واحد لآخر. وعندما تخطئ الكلمات طريقها يتفرد شاعر القرية الأوحد -أو بالأصح شاعر الشيخ- في فك شفرة تلكم الكلمات، يَفهمها ثم يُفهمها ولولا حاجبه الأيمن ما فهمها أحد. يفهمها الجميع عدا من يصرف نظره ثانية واحدة عن حاحب الشاعر!! فمنه يتسرب المعنى وإليه يعود. ويذكر أن أحدًا من “الرعية“ قام ليعطي الشيخ غلة حصاد ذلك العام، المتفق عليه سلفًا، أخذ الشيخُ المالَ وعلبتا من سمن وعسل -زائدتان- فيما راح الرعوي يلثم رأس شيخه تباعًا راجيًا؛ عفوه ورضاه... من بين سيل كلمات “الرعوي“ المجازية المتداخلة غير الواضح معناها، نحت لفظة منحى آخر جعلت -رجل مرور الكلمات- مرتبكًا! إذ أظهر حاجبه الأيمن شارات شؤم... تلا ذلك صمت ثقيل، لم يمضّ طويلًا حتى فهم أبناء الوادي فداحة ما قيل عدا قائلها المنهمك في تقبيل الشيخ. وأمام الرؤوس المتلهفة إلى سماع النبأ الناجم عن لفظ الرعوي، قال “رقيب الكلمات“ إن لسان الرعوي زل. في اليوم التالي اختفى الرعوي بظرف غامض. وبعد ثلاث ليال من اكتمال القمر وجدوه مقتولًا وجثته أسفل شاهق. لم تدفن جثته مغيب ذلك اليوم! لأسباب يعلمها مُنجِّم الوادي وحده. ومع انبلاج صباح اليوم التالي ووري جثمانه وبقي قبره بدون اسم! ولن يهتدي إليه أحد سوى ابنيه ولولاهما ما ذُكر اسمه إلى الأبد. أما حاجب الشاعر فظل على حاله: يترجم مكامن الأنفس، ويسبر غورها. الغريب حتى اللحظة لم يدرّ أحد كيف يزل اللسان؟
في المناسبات يستقبل الشيخ قبلات كثيرة؛ على مضضٍ طبعًا، وخاصة قبل وبعد الحصاد، في الأعياد، والزيجات، في النهارات المشمسة، وغير المشمسة، في أيام البيض، وفي السنة الكبيسة، ووقت هطول الأمطار، وقبل الصلاة وبعدها... في صبيحة أحد الأيام صحا أبناء الوادي على حدث جلل ستتناقله الألسن قرية عن قرية حتى يتغير جزء من معناه. في قرية مجاورة سيشاع خبرًا: إن شيخ القرية المجاورة بلحمه وشحمه وأبهته وجاهه قبّل رأس أحد الرعية. في قرية أخرى سيرد في القصة حاجب الشاعر الأيمن. لا شأن لنا في هذا. لقد كان مجرد التفكير في الشيخ وهو يقبل رأس رعوي أعزل لا يخطر في بال. حتى حدث ذلك. قبل يوم من الواقعة بُشر الشيخ بابنه الأول بعد ست إناث. احتفل على طريقة الشيوخ، فتداخل صوت الدف بأزيز الرصاص.
سيحتفل أبناء الوادي جلهم، كما ستشتعل نيران مواقدهم على حد سواء فكل بيت نال حصة من اللحم، وهذا لا يحدث إلا نادًرا في غير أيام العيد...
بيتٌ واحد في الوادي لن تشعل مواقده!! إذ إن رصاص طائش سيخطئ طريقه ويستقر في رأس رب البيت.
عند تشييع جنازته جاء الشيخ إلى المقبرة بموكبه الغفير قائلًا: إن كان لأحدكم دينًا عند الميت فأنا كفيله. ثم راح يقبل رأس ابن القتيل.