لم يعكّر صفو الغابة في ذلك الصباح الشتوي البارد سوى صوت فأسه المزدوج. تخلّلت أشعةُ الشمس الباهتةِ فراءَ الأشجار الأخضر السميك مختفية في ثنايا الضباب الجبلي الصباحي الذي أخذ بالتلاشي ببطء مع تقدم النهار. زقزقَ عصفورٌ بكسلٍ، ثمَّ ما لبث أن صمت مقشعرّاً من برد أوائل النهار. بالإمكان أيضاً سماع عواءِ ذئبٍ حائر يبحث عما يسدُّ رمقه في شتاءٍ قارس البرودة، إذ يختلف هذا الصنف عن أبناء عمومته من الثعالب في عناده ورفضه للسبات الشتوي مفضلاً البحث عن طريدة شاردة أو نافقةٍ بين أكوامِ الثلوج وتحت زخّاتِ المطر.
صمتتِ الغابةُ في مجملها باستثناء صوت فأسه العنيد الذي لم يأبه بالقرِّ أو بالحرّ؛ توالت الضربات بانتظامٍ وإيقاع؛ اختلَّ بعدها النظام وسقطت ضربتين أو ثلاثاً بتوترٍ، ثمَّ رانَ صمتٌ متوترٌ وجيز؛ رددت الغابةُ أصداءَ صرخةٍ أنثوية جَزِعَةٍ للمرة الثانية!
أخفضَ فأسَهُ الضخمَ وأصاخَ السمع إلى أقصى ما يمكن لأذنيه الكبيرتين أن تُسْمِعَاه؛ باغتتهُ صرخةٌ ثالثة ملتاعة أطول من سابقتيها؛ استطاع تقريبياً تحديدَ مصدرِ الصوت؛ انتضى فأسهُ بعزمٍ ومضى مسرعاً باتجاه مصدر الصرخة.
مَضَتْ بضعُ دقائق قبل معرفته كُنْهَ المصيبة؛ مرّت خلالها ذكرياته الكئيبة الماضية لسببٍ مجهولٍ أثار حيرته؛ لماذا استافقت أحداثٌ جرت منذُ عشرين عاماً في هذه اللحظة بالذات؟ ولكن هل نامت بالأساسِ لتستيقظ؟
مشى بخطواتٍ واسعةٍ نشيطةٍ وقلقةٍ رغم ضخامةِ جثّته وطولهِ اللافتِ للنظر؛ قد يخالُهُ البعضُ، لو رأوه في تلك اللحظة، دبّاً سورياً بنيَّ اللون غاضباً لا سيما وأنَّ لونَ معطفِ الفراء المصنوع من جلد الخاروف تشابه قليلاً مع فراء الدببة السورية الفاتح. أجالَ عينيه العسليتين في الأرجاء وحكَّ لحيتهُ الطويلة حينما توقّف لحظةً محاولاً ضبطَ اتجاهاته، ثم اندفعَ مجدداً.
لم يكنْ شرساً كحاله الآن قبل عشرينَ عامٍ؛ عادت ذكرياتُ المأساةِ تجولُ أمام عينيه! أطلق أفرادُ قريته الصغيرة لقبَ الدبِّ عليه لوداعته وبرودته وضخامته، إذ تجاوزت قامته المترين، وقاربَ وزنُه مئتي كيلوغرام! جعلهُ هذا السَّمْتُ مارداً مخيفاً ودبّاً متوحشاً في الوقت الحاضر، لكنهُ كانَ أقرب إلى دبٍّ دَمِثِ الطباع طيّبِ القلب قبل المأساة التي جرت لهُ منذ عشرين عاماً!
لم يتوقفُ الصراخُ الأنثويُ عن توجيهه إلى الغاية المنشودة أو عن استزادتهِ نشاطاً وقلقاً؛ إنهُ الأدرينالين! لكن امتزجت لوعةُ الذكريات مع هذا الهرمون لسببٍ عجيبٍ لم يدرِ لهُ سبباً ناهيكَ عن جهله أساساً بوجودِ وماهية الأدرينالين. أثار الصوتُ الأنثويُ الفَزِعُ أعمقَ نقطةٍ في لجّةِ ذكرياته السوداء! لَكَمْ صَرَختْ تناديه وهي بينَ براثنِ ذلك الدبِّ الجشعِ!
قبل عشرين عاماً، لم يكنْ محطّ إعجابِ الشاباتِ في قريته. لقد استظرفنَ دماثته بطريقةٍ أقرب إلى الاستغلال ليساعدهنَّ في الأعمال التي استصعبنها، لكن بقي استظرافهنَّ مزيجاً من المرح البارد العواطف تجاهه. استمتعنَ بخجله الأخرق حينما داعبنهُ عامداتٍ بكلامٍ رقيق أو حينما استعصى على عقله البسيط فهم مخاتلاتهنَّ.
لم يختلف الوضعُ كثيراً مع الرجال والشبّان أيضاً! امتدحوا طيبتَهُ وحبَّهُ للمساعدة ومهارتَهُ الحرفية، لكنهم ما بَرِحوا يستهزؤون بفهمه البطيء ويلومونه على بساطته. وكذلكَ كانَ الوضعُ مع الأطفال، إذ تربّى هؤلاء على تعاليم الكبار وأخلاقهم واقتدوهم في التصرفات والمداعبات، بل وتمادى بعضُ المشاكسين إلى رميه بحجرٍ أو ثمرةٍ فاسدة والهربَ سريعاً بعدها. عاملهُ الجميعُ بهذا المزيجِ من المودّة المخاتلة باستثنائها هي!
امتدحها الجميعُ بدورها، لكن لم تنجو هي الأخرى من ’مداعباتهم‘! أجمع سكان القرية على جمالها: شعرُها ذهبيٌ كسنابل القمح، وعيناها زرقاوان كسماء تموز الصافية، ووجهُها أبيضُ كثلج الغابة حيثُ يستعصي زوجُها بعد عشرين عاماً على المأساة! لطالما سمع الشبّان يمتدحون قامتها الفارعة المتناسقة، ولطالما اعتبروها خيرُ زوجة لمن يرغب: جميلةُ الخُلُقِ والأخلاق! لكن، هناك ما عابها في نظر الجميع؛ لقد كانت فصعاء! لاموا جميعَهم الطبيبَ الشعبي الأخرق الذي حاول تقويمَ ساقها المكسورة بعدما سقطت عن سطح دارهم أثناء نومها في ليلةٍ صيفية قائظة، إلا أنَّ لومهُ لم يشفع لها أكثر من ذلك في عيون القرية!
تعامل المجتمعُ معهما بتماثلٍ، والتماثلُ في التعامل أَدَّى بهما إلى التقارب. لم يلحظ هو التشابه في وضعيهما ولم يسعَ إلى التقرّب منها بالطبع، وبالطبع كانت هي من لاحظَ وسعى. ارتبكَ للغاية من لطفها في بداية الأمر فهو لم يَعْتَدْ اللُّطفَ إلَّا إذا أخفى استغلالاً لقوّته، ثمَّ ما لبثَ أن استطابهُ واستلذَّ به بسعادةٍ بلهاءَ رغم تأرّقه من انعدام التوازن بينهما فهي تفوقهُ حُسناً وجمالاً بأشواط!
أصبحا بعدها حديثَ القرية الخاليةِ من الأحداث والأحاديث. سَخِرَ الشبّانُ من الثنائي الأخرق فزجرهم الرجالُ بشدّة، كما حاولت الفتياتُ الاستهزاء بهما في الصبحيات التي تبادلتها الوالداتُ مع الجارات، لكن طردت الوالداتُ بناتهنَّ من الجلسات الصباحيّة في أغلبِ الأوقات جزاءَ تماديهنَّ بالكلام! لم تخلُ القريةُ من الرأفةِ تجاه بساطة العلاقة ورقتها.
جاءَ بعدها اليوم الذي قَدِمَ فيه أحدُ الفلاحين المحترمين إلى مسكن الشاب وطلبَ منه بجديّة وإيجاز أنْ يتبعه، ولم يدرِ الأخيرَ الوجهة ولا السبب وراء جديّة الطلب، لكتّهُ انصاعَ جرياً على العادة. طاردتهما أعينُ الكبار بنظراتٍ متباينة: غلبَتْ الشفقةُ على بعضها، وبدى الاستحسانُ على البعض الآخر، وتجلّى الفضولُ على غيرها، لكنَّهُ لم يفكر بالأمرِ كثيراً رغم استغرابه؛ اعتاد على تجاهل الناس وأفكارهم.
قادَهُ الرجلُ بصمتٍ عبر دروبِ القرية إلى دارِ والدها ودخلاهُ سويةً. استقبلهما الوالدُ باحترامٍ شديدٍ غير معتادٍ بالنسبةِ له، ولم يَجُلْ في دماغه الطيّب حتى في تلك اللحظة أنَّهُ وابنة الرجل هما المحوُر الخفيُّ لهذه الزيارة الغريبة. لم يتجلَّ له الأمر إلّا حينما طلبَ مرافقهُ بأدبٍ جمٍّ يدَ الشابة الجميلة للغلام الطيّب القلب. ارتجفَ كيانهُ الضخم من وقع الحدث الجلل، وسكبَ الشايَ الساخن على فخذه لفرطِ اضطرابه! ضحك الرجلانِ باستمتاعٍ وحنو لارتباك الشابِّ وأعادَ والدها ملء القدح برحابة صدرٍ، لكنَّ الشاب لم يستمتع به كمثل الرشفة الأولى، إذ لم يَعُدْ حلو المذاق بعدما أضافَ المزيدَ من الشاي المختمر؛ لقد فرّطتْ العائلةُ بالسكّر الأبيض كُرمى لهما!
ورغم ولعِه الشديد بها ورغم شهامة الفلاح الذي تقدَّم نيابة عنه لخطبتها – كان يتيماً ولا بدَّ من وجود شخصٍ ناضجٍ ليقوم بالتقدّم إلى خطبة الفتاة نيابة عن الشابِّ حسب التقاليد المتعارف عليها – غير أنَّ ضمير الفتى أبى إلّا أن يعترفَ خَجِلاً بالفارق الهائل بينه وبين العروس الرائعة! أصاخ الرجلان بصبرٍ إلى حين فراغه من نواحه الأخرق واتفقا بهدوء ومنطقيةٍ على أنهُ من الأفضلَ لهُ الكفَّ عن الهذيان والتفكير باستغلال مهارته الحرفية في بناءِ بيتٍ متين بدلاً من الوُجِارِ المتداعي الذي يقطنه.
سارتِ الأمورُ بعدها على أسرع وأفضل وجهٍ، وانتهتْ كذلك بأسرع وأتعس وجه!
عندما حدثتِ المأساة، كانا بالكاد قد تزوجا، بضعة أشهر لا تتجاوز أصابع الكفِّ الواحد. قد يتساءلُ البعضُ عن كُنْهِ هذه المأساة التي تكرَّرَ ذكرها؛ أكانت حريقاً؟ لا، ولم تغرق زوجته في النهر القريب من القرية، ولم تحدث حرب، ولم تهاجمها الكواسر التي جابت الغابات الكثيفة حولهم – كان مصيرها أكثر مأساوية، خصوصاً في أعين نساء القرية جميعاً الشابات منهنَّ والعجائز اللواتي اكتفينَ بهزة رأسٍ ملتاعةٍ حينما تذكّرن الحادثة في سياق أيّ حديثٍ صباحي، إذ لم يرغبنَ باسترجاع ذكرى نفسٍ محترقة كادت أن تكون أيُّ واحدة منهنَّ في مكانها!
في صبيحة ذلك اليوم الشتوي قبل عشرين عاماً، حدثَ أنْ هبطَ أغا العثمانيين إلى القرية جمعاً للضرائب والاطمئنان اسميّاً لا رسميّاً على حالِ الرعيّة. اختفت النساءُ في دُورهنَّ عندما عَلمنَ بقدومه حيث اشتهرت حضرتهُ البهيّة بالولع الشديد بالنساء. قد يخيّل للبعض أنَّ الأغا كان جميل الطلعة نتيجة مغامراته العاطفية المتكررة – في الواقع كان دبّاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فاق الجميع بقامته ووزنه وبياض بشرته، إلَّا أنَّ ملامحهُ عكست شراسةً وحيوانيةً مقيتتين: عينان صغيرتان فحميتان، أنفٌ كبير أفطس، وفمٌ واسع دقيق ضمن وجهٍ ضخمٍ مربع.
انتقلَ الأغا من دارٍ إلى دار إلى أن هبط على دار العروسين البسيطين؛ لم يحتاطا ولم يَدُرْ ذلك في فكرهما البريء من الأساس. . . طبعاً حدثَ ذلك في البداية. توجّسا شرّاً مبهماً تحتَ نظرات العينين الداكنتين اللتين ما بارحتا وجهَ الزوجة الفاتن؛ ركّز الأغا عينيه على الزوجة بشبقٍ أثناء حديثه مع الزوج إلى درجةٍ دفعت الأخير، رغمَ بساطة تفكيره، إلى إدخالها إلى الغرفة الأخرى في الدار أمام عيني الأغا المبتسم بمكرٍ. أدخلها ووقفَ بتحدٍ أمام غريمه الذي اكتف بابتسامةٍ مستوعبة ومستهزئة؛ هزَّ رأسه بصمتٍ وخرجَ مع مرافقيه.
شعرَ الزوجانِ ببعض الأمانِ رغم توجُّسِهما من كيد الأغا، لكن استمرّ الأخير بجولته دونما أيّ اهتمامٍ من قبله نحو شخصهما. استمرَّ الوضعُ كذلك إلى انتهاء موسم جمع الضرائب، وزالت مخاوفُ العروسين بعد إهمال الأغا لهما كلَّ هذه الفترة.
في تلك الليلة الشتوية القارسة، أيقظهما قرعٌ صارمٌ على الباب. . . فتح الزوجُ متوجساً فانهالَ عليه أربعة جنودٍ أشداء بالضربِ بأعقاب البنادق، ثمَّ أوثقوه وألقوا به في أحد أطراف داره. بالطبع دخل أغا العثمانيين بعد ذلك وتوجَّه رأساً إلى الغرفة الصغيرة حيثُ تكوّمت الزوجةُ الفزعة في فراشها الدافئ معللةً النفسَ بأملٍ طفولي أنَّ الجميعَ سيتجاهلها فيما لو بقيت مكانها. شَهَقَتْ بهلعٍ حينما رأت الأغا الضخم عند قدميها وارتعش كيانها بعنفٍ؛ تبسّم الأخيرُ بتلذذٍ فخوفُ الضحيّة وبكائها وترجّياتها يزيد من استمتاعه؛ بالطبع هذا ما قامت به الزوجة حرفياً ليقابلها بتفهمٍ صبور وليطلقَ بعدها أمراً لئيماً بارداً: أدخلوا الزوج أيضاً!
اغتصبها بأشنع طريقة تفتّقت بها خبرته في هذا المجال على سرير الزوجية وأمام عيني زوجها إلى أن استلقت محطمة دونما حراك! نظر إلى زوجها بفضول وتشفٍ فرأى القهرَ مجرّداً في تفاصيل وجهه كافة. لم يطفو أيُّ إحساسٍ بائس آخر، فقط شعوره بالقهر من كل شيء أودى بها وبه إلى هنا. شعر بالقهر من فقرهما وضعفهما وغبائهما وحياتهما التافهة ومن لؤمه ووضاعته وسلطته، لكنْ وبرغم ذلك هي الشخصُ الوحيد الذي عطف عليه وأحبه دونما استغلال بل نتيجة استغلال المجتمع لضعفهما. تثبّتَ نظرهُ عليها بوجلٍ وحنوٍ إلى درجة نسي معها إحساسَهُ السابق تماماً، وصبَّ جميع اهتمامه على أنفاسها البطيئة المتألمة.
قرأ الأغا مشاعرُ الزوج بمكرٍ غريزي وأدركَ كونَ مشاعرهُ هذه هي نقطة ضعفه المطلقة. ابتسم بلؤمٍ وسحب مسدسه ببرودٍ ووضعَ الفوهة في فم الزوجة وهو ينظرُ إلى الرجل بانتصار – أرادت نزعةٌ شريرة كيديّة في سحق هذا المخلوق البسيط وتشويهِ حياته إلى الأبد. ضحك بقذارة وأطلق النار!
لو رأى أيُّ فنانٍ وجه العريس في تلك اللحظة لحملَ نتاجه الفنيُ أو الأدبيُّ عنواناً من كلمةٍ واحدة: اللوعة! اندثرت بقايا سعادته إلى الأبد؛ لقد انهارت حياتهُ بموتها تماماً! لم يستطع البكاء فلوعة فقدها كانت أكبر من طاقة دماغه على الاستيعاب ووصلت إلى درجة الانشداه. تجمعّت هذه المشاعر المحطَّمة والمحطِّمة في داخله وتكاثفت إلى درجة الاختناق؛ أحسَّ بجيشان هائل من الأسى والبغض واليأس والغضب – كان خليطاً نووياً إذا ما انفجر، وانفجر في تلك اللحظة!
قطعَ وثاقه بقوّة هائلة أدهشت الأغا ولم تعطه فرصة لاستخدام مسدسه ثانية، وابتدأ صراعُ البقاء بالنسبة للأخير وصراعُ الانتقام للأول. كانا أشبه بدبّين يتصارعان: أولهما دبٌّ برّيٌ عركتهُ الجبالُ والغابات بقسوة، وثانيهما دبٌّ مروّضٌ قضى عمرهُ في راحة وسلام. تهشّم أثاثُ الغرفة وهما يستخدمانِ جميعَ ما يقعُ بين يديهما كسلاحٍ لتدمير الآخر. هنا برز اختلافٌ في أهداف الصراع: أرادَ الزوج القضاء على غريمه، في حين حاولَ هذا الأخير الإمساك بخصمه حيّاً – مثلُ هاتين الشراسة والتحدّي تستحقّان ميتةً تلائمهما!
دافع أغا العثمانيين عن نفسه بشجاعة وشراسة منقطعتا النظير، وحين حاول رجاله التدخل في الصراع نهرهم بقسوة وطردهم خارج حلبة صراعهما مغلقاً الباب: إنها معركته مع هذا الدبّ البري وسيصطاده ليصنع من فراءه معطفاً! جلس الزوج في هذه الأثناء في طرف الغرفة يستردُّ أنفاسهُ اللاهثة لتعود المعركة إلى الدوران بشراسة أشد!
وأشدُّ ما استفزّ الزوج هو ضَحِكُ الأغا الهازئ رغم تألّمه تحت الضربات التي تلقاها من يدين أشبه بالمطارق؛ بصقَ دماً داكناً، لكنَّ ذلك لم يمنعهُ من إطلاق قهقهةٍ قصيرة والانقضاض مجدداً ليتلقى المزيد من المطارق وقطع الأثاث في مختلف أنحاء جسده. انتهى الصراعُ بالطبع بتغلّب الزوج؛ ثبّت خصمه إلى الباب وأخذ يكيل له أشدَّ ما يستطيع من الضربات. أصبحَّ همّهُ الوحيد هو مسحُ الابتسامة الهازئة التي تجذّرت على فم الأغا الذي غابَ عن الوعي وهو ينظرُ بتحدٍّ شرير هازئ؛ استمرَّ بعدها الزوجُ باللكم دونما معرفةٍ منه أنَّ غريمه قد انتهى حتى تحطّم البابُ من وطئ الضربات وسقط الأغا إلى الأرض جسداً ضخماً مدمى وذا وجهٍ مشوّه.
عندما رأى الجنودُ الأربعة منظر الدبُّ الغاضب الذي واجههم، تغلَّبَ على أعصابهم خوفهم الغريزي وفرّوا أمامه مذعورين. استطاع اثنان منهما النجاة بحياتهما وصراخهما يسبقهما، في حين لاقى الآخرين مصرعهما. استافقت القرية جميعاً على أصوات الصراع الوحشي، لكن لم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب إلى أن حلّ الصباح. بدأوا بالتسلسل بخوفٍ وحذر إلى المنزل الموبوء ليطالعهم منظر الجثث الرهيب: ثلاثُ جثث تماماً – لم يمتِ الأغا رغم العنف الوحشي الذي تعرّض له، بل فقد بصره من عنف اللكمات التي تلقاها. أين ذهب الزوج؟ اختفى ولم يدر أحد وجهته.
في ذلك اليوم الشتوي البارد، مرّ شريطُ حياته أمام عينيه خلال اللحظات التي بحث فيها عن مصدر الصراخ والذي كان السبب في استعادة هذه الأحداث المأساوية كلها. نظر حولهُ بحذر إذ أصبح الصوتُ شديداً وقريباً. لقد مضت عشرون عاماً عليه وهو شريدٌ طريد في الجبال والغابات فقد توعّدهُ الأغا وأقربائه بالسلخ حيّاً لو أمسكوه فاعتصمَ هو في الجبال منتقماً من كلّ جندي عثماني تركياً كان أو عربياً؛ عاشَ على حقده في البرية مجسّداً الاسم الذي أطلقهُ عليه أهل القرية – عاش كدبٍّ برّي! مرّت عليه لحظاتٌ من الملل، وتمنى لو ينتهي من هذه الحياة البائسة، لكنَّ صراخها الذي بقي يدوّي في رأسه طوال عشرين عاماً هو ما منعه من التوقف!
وهذا الصراخ المشابه هو ما حثّهُ على الاندفاع لمساعدة مُطلِقته؛ شاهد على بعد أمتارٍ منه شابةً تجاهدُ لتستمر في الركض وفي أثرها دبٌّ سوريٌ بني اللون. لطالما مات القرويون في الشتاء بسبب هجمات الدببة التي استافقت جائعة من سباتها أو نتيجة إيقاظ البشر نفسهم لها إذ اشتهرت هذه الفصيلة بسهولة إيقاظها من سباتها.
أيقظ المشهدُ سلسلة الأحداث نفسها: الشابّة الخائفة، صراخها، والدبّ! اندفع في عدّة قفزات سريعة نحوها ليدخل ساحة الصراع من أجل البقاء. سقطت بين يديه متهالكة، وقالت لهُ كلمة واحدة بين أنفاسها اللاهثة: الدبّ! نظر إلى عينيها الزرقاوين أو ما بدا له أنهما زرقاوين، ثمّ أزاحها برفق إلى خلفه ليواجه خصمَهُ الشرس ويحميها. توقّف الدبُّ موازناً قوة الخصم الجديد مع قوته؛ كان ذكراً ضخماً بالنسبة لفصيلته في حوالي العشرين من عمره؛ انتصبَ على قائمتيه الخلفيتين فزاد طوله على المترين وقارب وزنهُ الثلاثمئة كيلوغراماً؛ أراد أن يرهبه بضخامة متنه، ثمّ جأرَ بصوتٍ وحشيٍ يصمُّ الآذان.
اعتادَ الزوجُ على تصرفاتِ الدببة هذه إذ لم تكن المرّة الأولى التي يتواجه فيها مع هذه الحيوانات، لكنّهُ رأى في الدبّ بالأخصِّ شيئاً مألوفاً – كانت عيناهُ داكنتان صغيرتان وخطمهُ كبيراً وفمهُ واسعاً. استفزّهُ التشابه المألوف إلى أقصى درجة؛ عليه أن يعيدها حيّة مهما كلّفهُ الأمر؛ يجب أن تحيا؛ يجبُ أن يموت الدبّ!
أمسكَ بفأسه المزدوج ورفعهُ فوق رأسه وصرخ بأعلى صوته محاكياً تصرفات الدبّ! كان صراعاً حقيقياً بين دبين حقيقيين: أحدهما بشري والآخر حقيقي! كانت الغاية من الصراع لهما هي نفسها: على الآخر أن يموت!
حاولَ الزوجُ الإطاحة بخصمه بضربة مباشرة من فأسه على الجمجمة، لكنّ الأخير تفادى الضربة وصفع خصمه فأطاح به عدّة أمتار ليتدحرجَ بعدها بضعة أمتارٍ أخرى. لم يمهله الحيوان لينهض بل وصل إليه حال استقراره ليعضه من كتفه ويجرجره يمنةً ويسرى. هنا استلَّ الزوجُ سكيناً طويلة من حزامه وطعنَ الدبّ بيده السليمة طعنة عشوائية فأصابه في رقبته ليفلته الحيوانُ من شدّة الألم. لطالما تواجه مع دببة بنية، إلّا أن هذا الأخير تميّز بشراسة منقطعة النظير!
ضحك الزوجُ بيأسٍ واقتربَ بحذرٍ من غريمه الذي انتصبَ على قدميه؛ سيوجهُ لهُ صفعة أخرى الآن؛ اندفعَ كفُّ الدبّ بعنفٍ شديد فخفضَ الرجلُ جسمهُ برشاقة، ثمّ شقَّ جلد خصمه بضربة سريعة من سكينه فقذف الدبُّ بجسده على الرجلِ مطبقاً بفكيه على أصل عنقه، وتدحرجا معاً على الأرض ليصلا في تلك الصدفة ’السعيدة‘ إلى جانب الفأس التي طارت من يد صاحبها عند بداية الصراع. أمسك بها الدبُّ البشري وهوى بها بمجهود أخير محمّلاً إياها جميع مشاعره في ضربة عنيفة مباشرة على أمِّ رأس الدب الحقيقي؛ تراخى فكا الوحش عن عنقه ببطءٍ ثم سقط إلى جانبه – كانا دبّين محتضرين!
أخذ ينفثُ الدمَ الداكن من شدقيه، وبدأت الحياةُ تتلاشى من عينيه مع كلِّ حشرجة؛ تحرّكت عيناهُ في آخر مجهودٍ لديه لينظر إليها؛ جلست خائفة مضطربة تنظرُ إليه بوجلٍ ويأسٍ وحنو فجاهد ليبتسم؛ كان آخر ما وقعت عليه عيناهُ هو عيناها؛ كانتا زرقاوين أو بدا له أنهما خضراوين – لا يهم، لقد عاشت!
-تمّت-
تشرين الثاني 2021