(وذقنه قَطَرَ بالقرمز)
في الغابِ قولٌ سارٍ أن انظر للشمس، إن رأيتها تُقذَفُ غربًا وتَسقطُ شرقًا حينها افعل ما شئت. وفيما ورد في تفسير المقولةِ أن ما وضع أمرٌ في هذه الحياةِ إلا وله وجهةٌ قدماه لا تعرفُ إلاها، ويداه لا تقبضُ إلا ما خطاها، وعلى ما عرف وقيل سرنا واسترزقنا نحن قبائل الضباع، نتبع الأسود نهارَ اليومِ نصغي ونطيع، ثمَّ يولج الليل في النهارِ فنجازى ونُرزَق. لم تسع عينايَ غير هذه حياة، ولم يكُ في نجوايَ قبلُ غيرَ نفسي والطاعة ثمّ اللحم... أو اللحم لا غير.
هذا، حتى نظرتُ يومًا في بقايا الغزالِ مفروشةٍ أمامي وفمي يقطرُ دمًا، فقلتُ سهوًا لِرقعَةَ –من جانبني الوليمة- “إن جاءَ يومٌ كنتُ فيه قوتَ ليلتكم، فاتركوا وجهي“.
ما اجتازَ علمي برقعةَ أرنبة أنفه؛ تحفرُ بلحمِ الميتة معي ما إن يرميه علينا نَاب. وجهلًا مني حسبت أن مثله مثل الضباع، يعرف بما نصَّ الغاب ويقاد به. ولكنّ ليلتنا تلك، لحظتنا تلك عندما نزع فكيه من ضلع الغزال الدامي ونظر فيَّ نظرةَ فرخِ العصفور لما طار، فيها من الهلع والخوف والإدراك ما باغتني وبثّ فيَّ شيئًا من الذعر لم أعرف مصدره ولم أُرِد؛ أدركت، لَا.
“ما تظنُّ في نفسك؟“ سألني، ذقنه يقطر بالقرمز، “ألّن أعيش الدهر كله“ أجبته، دقات قلبي تصعدُ مع صعودِ رأسه حيثُ استقام.
“وما تظنُّ فيَّ؟“ في صوته تلكَ المرة ما قربَ الالتماسَ لا السؤال، أشمُّ الذعر في عينيه وأسمعُ الهلع في عروقه، “أنكَ ضبعٌ كما أنا، تعيش لتأكلَ ونهايتكَ تموت“. على كلماتي تلكَ ابتعدَ ولحقته، أخبره أن لم يكمل وجبته، وأحذره من ناب، الأسد، أن لا زال هنا وأننا تحت أنظاره، أن قد يظنُّ فينا السوء ويحسب أنا هربنا لنصيد. وبدلًا من تباطئ خطاه ووقفها على تحذيري حالت من سيرٍ إلى عدو حتى ما وصلنا حدَّ بصرِ نابٍ وخفتُ لو تعديته فرجعت.
وما وجدتُ في بقعتنا حيث أكلنا الغزال إلا أفراد القبيلة أنوفهم مدفونة في اللحم لم ترفع، لا على حديثنا، ولا على ذهاب رقعة.
(رُقعة)
منذ ولدتُ وحتى حادثة الغزال، لم يدر رأسي بالوسواسِ والهواجِسِ كما دارَ وتدحرجَ وتمرَّغ تلكَ الأيام التي غابَ فيها رقعةُ عن بعثاتِ الصيد التي ترسلنا فيها الأسود، والأمَرٌّ غيابه ولائمَ الليل، لا أدري من أين يأكلُ، أيصطادُ الحيوانَ من نفسه دونَ سُلطَتِه أو...؟
حادثت وحاكيت من الضباعِ من هو كافٍ لأعرف، ما منهم من أحدٍ كرقعة، كلنا واحد لا تزوغُ عقولنا يمنة ولا يسرة، ومهما حاولت تفسير ما دار بيني وبينه ذاك اليومِ أراني في حيرة. همِّي في إن حدث وأوقع الشاردُ في القبيلة مصيبةً أن يُلقَطَ طرف الخيط ويُسحَبَ ويسحبني معه، أن تعودَ أفعاله لكلماتي وأن أصاحبه القبر قبل أواني.
أتاني جوابُ “أينَ أنتَ يا رقعة؟“ لمَّا عفاني نابٌ عن صيدٍ وجدَ من هو أكفأ مني له. رجعتُ قاصدًا كهفي فصادفت شاغلَ بالي في الغابةِ جالسًا وسط الزهور. “احذر المجاهرة“ أخبرته، لا وِدّ ينطقه لساني، فاستجوبَ بِ “ما معصيتي؟“ وكأنَّ شيئًا لم يكن، وكأنه لم يترك خلفه ضبعًا يسهر الليلَ يفكر فيه وإلى أين انقلب به المنقلب.
“لم تُخلَقِ الأزهار لآكلِ الميتة“
لا له، ولا لجثة. علمت من نظرةٍ واحدة فيه، رقعةَ لم يأكل منذ ذهب. أيقنت حينئذ أن تركَ ظلَّ الأسد.
وللغابةِ أحكام، أولها: اتبع أينَ تُقاد.
وكأنّ جملتي زادته عنادًا وعصيانا؛ فرشَ الفاجرُ جسدَه في الربيع، فكّه مرفوعٌ ينظر فيّ بتحدٍّ وشرر، “آكلًا من يدِ خِنُّوسٍ ما عُدت“، “وحيًّا مكرمًا ترزق لن تعود“ فيَّ من اليأسِ ما يقطر كالمطر، ذابلٌ جسده كان ولكن النارَ في بؤبؤيه تَعِدُ بالأبد. “بِمَ ابتُليتَ يا رقعة؟“ تآزرُ قبائلُ الضباعَ على ما امتد أخضر هذه الأرضِ فيه أقرب للحاجةِ مِنَ الألفة والمحبة، وما نجى امرؤٌ تَرَكَ الجماعة، مسلمةٌ يلقنها الجيلُ للجيل في حياةٍ احتُقِرَ فيها الضبعُ واستُنكِرَ.
“ابتليتُ بالذُلّ“
“ما ذلَّتِ العصبةُ فردها!“
“صدقت، ولكن ذَلَّتهُ نفسهُ وهَوَاهَا، ذَلَّتِ الضبع شهوته، فما عادَ يرى في ذاته إلا بطنه واللحم“
“وما أنتَ صانعٌ وهذه فطرتك؟“ مخبول! يعلمُ في نفسه الجوعَ والتعب ويحادثني عن ذُلِّ الشهوات، نعم أذلاء نحن! أذلاء أبداننا، ولذا نعمل ونسعى.
“إن حتمت عليَّ الجماعةُ الموتَ لا يُعرَفُ عَنِّي غير أكلِ لحمِ الميتةِ تركتها، وإن أسقطت عليَّ الأسودُ دورَ البهيمةِ عصيتها، وإن أرغمتني فطرتي بِما لا ترضاه نفسي... فما أنا بضبع“
“ما أنت؟“
“رُقعة“
(لسان)
رقعةُ كانَ هوَ بعد حوارنا، يَرْقِعُ تبعاتِ فعائله كلَّ يوم، يدورُ في الناسِ يخبرهم “لديَّ أنفٌ إن تحاكوه عن فقيدتكم تُجْلَب، جنوبَ الأرضِ كانت أم شمالها“، طالبًا أَجرَ عمله طعامًا. وطبعًا ما أتاه مصغٍ وهو ضَبْع، وكيفَ لَا والقتلُ فينا حقٌّ ونحن نأكلُ الكبيرَ والصغير، الحيَّ والميت. لولا أنوفنا وتميزها عن أنوفِ زُمَرِ الأسودِ ما كانت لنا حاجةً ولنُبِذنا نبذًا أنبذَ مما نحن منبوذون عليه.
“ما قولكَ في ضبعٍ يرى الفريسةَ أمامه فيسعى لغيرها؟“
“ضبعٌ يعيش“ أجاب، مبتعدًا عن رافضةٍ أخرى. ذاك يومٌ استهدفَ فيه رُقْعةُ الأرانبَ والخُرَزْ، حجمه نصفُ ما كان قبل أسبوع. أقسمُ بربِّ الشمس، صدته مرةً أو مرتين يأكل من الحشائش (ويحدثني المعتوه في الكرامة!)، “وفيما جاءَ في معجمكَ أن العيش يرادفه الانتحار“، وهو فعلًا ينتحر، لم يسع بلعومه قطعةَ ذبيحة منذ أمد، يعانق الهلاكُ سيماه فترى الحيوانات ما عادت تخاف منه قدرَ اشمئزازها.
“عُد يا رُقعة“ رجيته فلم يجب، إنما نَظَرَ في ثيتلٍ عملاقٍ أقبلَ علينا، قرناه تخرم السماء من جلِّها وطلته الهائلة أسقطت أربعتي وأنا المفترس لا هو. قبل تساؤلي في لِمَ يقرب ثيتلٌ الضباعُ أشرتُ بأنفي لرُقعةَ لعلَّ شيئًا من العقلِ بقي فيه ليهرب معي ونتحد إن فَكَّرَ ابنُ ثورٍ بنطحنا. ولكنَّ الأهبلَ عدَّلَ جلسته وما تحرك حتى ما عاد بيننا وبين الثيتلِ قدر طولي، عينه في العملاق لا أدري أيتحداه أم يطلب الموت (وكلتاهن حدا!)، هذا حتى نخرَ العملاقُ وهاجت فراؤنا مع زفرته.
“اجلبه لي“ تَفَلَ الثيتل شعرًا من فمه أمامَ رُقعةَ، بحلقتُ فيه لما دسَّ أنفه في كومة التفلة لا مبالي. استنشقَ شيئًا منها ثمَّ رفع رأسه وسأل “عجلك؟“.
نرى الثياتلَ مرة كل سنة لما يعبرون الأرضَ مهاجرين، أقولها وأعني أني لا أراهم أحياءً يتنفسون إلا من بعيدٍ إذا صعدت التلالَ، حشدهم يلم معه الأخضر واليابس وما لفظت فيه الحياة، كلهم وجهة واحدة حيث الأراضي الفسيحة والمياه الجارية. أما الميت منهم (الساقط من تلكَ الهجرة) فبعضه ينتهي عند قبيلتنا، وكله عند الأسود.
تسابقت أنفاسي دونَ طلبٍ مني، عرفت ذاكَ اليوم الفرقَ بين الخوف والمهابة، ففي الخوفِ اعتراض، وفي المهابة تقدير. هزَّ صوتُ الثيتَلِ الترابَ تحتي لما نطق، شعره تمايل مع مخارجِ كلماته، “مع البشر“. لم يعهد قطيع الثياتلِ قرى البشرِ في هجراتهم السابقة؛ هذا لأنّ ديارهم ما بنيت إلا من قريب.
ما من ساكن في هذه الغابة جاهلٍ بأمر البشر وأعدادهم المتزايدة، بل إن الأسود أبدت حذرها منهم ما إن بدت معالمُ قطع الخشبِ تظهر في الأطراف. أدركتُ أمر هذا الثيتل ولمَ قَدُمَ ضبعًا من بينِ كلِّ أنوفِ المفترسين الأخر حوله؛ فمن غير الضبعِ أحمق يجرؤ على مواجهة إنسان في داره؟
ولكن أمرَ حماقة الضباعِ ضاع منذ زمن، فالآن لدينا قانون الغاب.
وقد قالَ: إن القولَ الأول والأخير يعود لأسد.
“وما لي إن أحضرته؟“ سأله معتوهنا ومن غيره (أتَّبعَ مرةً عرفَ الأخضر؟)، فأجابَه الثَّيتَلُ بعد سكوت: “لساني“.
(أنَّكَ ضبع)
تغيرت الطرقات علي واختلفت ما إن مالَت خطانا إلى غير ما عهدناه، إلى حيثُ نور قرى البشر من بعيدٍ يومض. أصبحتُ من رأسِ الطريق لِمَا سرناه أنهى وأزجر “يا رُقعة، يا رُقعةَ عد، عد وكفَّ عنك الشرَّ إنك ما إن تطأ أرضهم ميت“. أقنعه وحقيقةً، ما عدت مقتنعًا. أرى ظهره يتمايل وهو أمامي يسير جلدٌ على عظمٍ، إن بقي عندنا ماتَ عنادًا وإن ذهب عندهم ماتَ حماقة، وكلها موتٌ مخزٍ.
“ما تظنُّ في نفسكَ يا رُقعة؟“ سارعت بخطواتي لتوازيه، وجهه صوبَ القرى لم يتزحزح، أراه عارفًا أنه يتخيل اللسان أمامه رطبًا شهي. “ألَّن أعيشَ الدهرَ كله“، صوتُه موقن وليسَ مستسلم، ما شدَّني لأتبع السؤال بسؤال، “وما تظنُّ فيَّ؟“.
أبصرني لحظة، وفي تلكَ اللحظة وقعٌ أشد عليَّ من وقعِ لمعة مخلبِ أسد.
“أنَّكَ ضبع“.
لم يسعفني الوقتُ لأقلِّبَ في ردِّه وما عناه، ليس لأنَّا قربنا القرى، ولكن لنابٍ الذي قفزَ علينا من جذع شجرة، وبينما أزحتُ نفسي من هبطته مرتعبًا بقي رُقعةُ مكانه مواجهًا جسده المفتولَ الذي سدَّ الطريق.
“هزيلٌ ضعيفٌ أنتَ لحمكَ يصفقُ عظمكَ“ طافَ جسدُ نابٍ الممتلئ حولَ رقعة حتى ظننت أنه هالك. أرى ذيلَه يثبِ جهةً وجهة، حدقات عينيه تتسع لا يسقطُ المُرَقَّطَ من ناظريه، “إلا أنَّ ظلَّكَ باسطٌ الأرضَ وما تلاها، حتى ما عدت أسمعُ إلا عن السبعِ الفاسقِ الخدَّاع يتربص بحيواناتِ الغابِ ينظر إن كان ليأكلَ هذا أم ذاك، عن الضبع الشارد“. ثبتَ ناب قبالة رقعة، وآهٍ من وجعِ صدري ذلك اليوم لمَّا رَفَعَ الشكِسُ صدره يحسب أنَّه قادر عليه وما هو.
“وما أنتَ بفاعل؟“ تحدَّى رقعةُ نابَ، وما عادت تحملني أقدامي، “أتركك في سبيلك“.
لا، لا رقعةَ ولا أنا جاهلانَ بكيفَ لا تمرُّ الأمور بيسرها بين الشجر، حيث تَبِعَ نابٌ جملته لمَّا بصر الشَّكَّ في محيا الضبع بِ “هذا حتى تعودَ من تلكَ القرى، وأراكَ وقد جلبتَ العِجْلَ فأجازيك بما تطلب، أو أن تمسك أنفي رائحة دمِه قبل تدرككَ عينايَ فأنقضَّ عليكَ وأقتلك“.
أيْ إما ينقذُ رقعة العجل فيجازيه ناب، أو يأكله فيقتله.
“كلتاهما أنا تحتك مسير، أواهمٌ أنتَ ترى فيَّ الانصياع؟“، طبعًا رقعةُ من تكلمَ من غيره، طويل اللِّسان! ولكنَّ نابًا ضحك ما غضب، أنيابه كشرت من الطرب المشؤوم، “أصبت، أرى فيكَ الانصياعَ...
ولذا قاتلني يا رقعة، أثبت لي أن الضبعَ ليسَ سجينَ شهواته منصاعٌ لها ذليل، أثبت لي أن الضبعَ ليسَ بضبع“
كالثورِ الهائجِ خبطت أقدامه الأرضَ قاصدًا أراضيَ الإنسِ يعدو إليها وأنا خلفه أنادي “رقعة! رقعة!“ ولا يجيب. لعبت فيه كلمات نابٍ لعبةَ العواصف بالشجر فما عاد يرى في طريقه غير ابن العجل، يجلبه لا لنفسه، بل لناب ليثبتَ حريته.
لم أدرِ لمَ تبعته حتى اقتحمنا مساكنَ الإنسِ في الليل، لمَ بحثتُ معه في كل زاوية وتحت كلِّ دابة، لِمَ خَطَّ أنفي طرقات القرى يجتسُّ أثرَ العجل. جلُّ فكري بجسد رُقعةَ وقد باتَ يضعف ويترنح، وربما كان السبب؛ فكلُّ اصبعٍ للموتِ أراه يداعب جسده يزيدني خشيةً وإلحاحا. ما وضع أمرٌ في هذه الحياةِ إلا وله وجهةٌ قدماه لا تعرفُ إلا هي، ويداه لا تقبضُ إلا ما خطا فيها، إن كُتِبَ على المعتوه الموت هذه الليلة، أقدامه ضائعة ويداه منفرجتان، ليمت فاعلًا ما شاءَ!
قبلني اليأسُ، أتقلب بينَ تحسس أثر العجل التائه وتفقُّدِ رُقعة، وثمَّ توجس طرق الإنس وخلوها. هذا حتى فُجِعنَا بانفجارٍ اندلع منه نورٌ كنورِ الشمس قَدُمَ من إنسيٍّ بعصًا تطولني ينظر فينا بتوعد، فما كان بيدنا إلا الذهاب أينما أخذتنا الأقدام. “اركض!“ اسمعُ رُقعةُ يصيح بي بين الطلقات المتتالية، كما عهدته، مخبول، يحذرني وينسى أنه الضبعُ المحتضر.
ركضنا حتى ضيعناه على طلعة الغداة، وعندما أمِنَّا خلوّ البقعةِ سَقَطَ رقعةُ على جنبهِ وسَقَطَ قلبي معه، أدورُ حوله ضائعًا لا أعلم ما أفعل.
“حلّ عني“ أنبني وصدره يصعد ويهبط، ثم استنشقَ ملأ رئتيه، وكأنَّ ألمًا جارٍ غطَّاه، حيث كشر وجهه ولمَّ جسده.
لوهلةٍ ظننتها سكراتِ الموت. ولكنه قَفَزَ.
قفزَ رُقعةُ مصعوقًا، متعثرًا مرتين قبل أن يقف على أقدامه الأربع. “ما بالك؟“ صحت عليه، فقابلني والدهشة بادية فيه. “أشتمُّ رائحته!“
(ذليل)
جاهدَ رقعةُ ضمورَ أطرافه، أراهُ يعرِجُ تحت ضياءِ المشرق فأكشفُ بين استماتته الحياة. ثمَّ يأخذني عقلي إلى ما قبل وليمة الغزال، حيث لم نعرف عن بعضنا غير أنَّا شركاء في الطعام... قبيلة ضباع، فأتدبر. لو ماتَ الأبلهُ وأنفه في اللحم، لحزنتُ لموت ضبع، ولو ماتَ الآنَ هذه اللحظةَ كادحًا للسانِ ثيتل، لحزنت لموت رُقعة.
انتهى به التقصِّي قربَ قرى البشر لا فيها، اقتربت منه استفسر إن كان العجلُ قريب، فاستوقفني وجهه الرِّّعِش. “ما بالك؟“ سؤالٌ لم أحتج جوابه. هذا وقد تبعت حدَّ ناظريه فإذا بعجلٍ دامٍ ملقًى في الأرض.
قَتَلَ البشر ابن الثيتل.
مدت ظلالنا الشمس حولَ جثَّةٍ اجتمعت عليها حشراتُ الجيفة وغطاها العفن، وجهه لا يعرف وإن كساه الوَضَح، فروهُ خُلِطَ مع الطين فباتَ صلبًا قاسٍ كألواح الخشب. تنهيدةٌ لا أعرف إن كانت من حسرةٍ أم غمٍّ أطلقها أنفي. تأملتُ رُقعةَ الصامتَ ودنوتُ منه، كتفي بكتفه وذيلي يمسح بظهره، “لم يَفُتكَ اللِّسان، سنسحب الجثمانَ حتَّى والده“. مسحت بأسفلِ فكِّي رأسه مواساةً ولكنّ قلبي انكسر لما ابتلَّيتُ بدموعٌ لم أعهدها منه ولا من أصحابيَ الضباع.
“رُقعةُ لقد نلتَ مبغاك! أردتَ تحدِّي الأسود والاستقلالَ فكان لكَ وعشت، وما علينا إلا إرجاعُ جسدِ العجل. فما يبكيك؟“
طالَعَ وجهي بنظراتٍ أخرستني.
آه... آه!
سارَ مستسلمًا مذعنًا حتى صقعت أقدامه وجه العجلِ، وما انتَظَرَت أنيابه، أخَذَت من لحمِه بنهم.
عادَت بي الذكرى ليومَ أخبرني أنَّا أذلاء أنفسنا. وفي ذاكَ الأوانِ وأمام مشهده وهو يأكل من لحمِ الميتة لا يتركُ منه شيئًا أدركت أن قد صدق، فنحن مبتلون بالذلِّ، وذِلةُ الضبع شهوته.
(والعيش ما ستفعل)
لم يقصد رُقعةُ دربًا غير دربِ الغابةِ لمَّا عاد، لحقته والصمتُ ثالثنا. عجبي حينَ رأيتُ فيه الحياةَ وهو طويُّ البطن، والموتَ وهو شبعان. عادَ للغابة مطأطئ الرأس مهزومًا يائسًا من نفسه ماقتًا لها.
ما الحيوانُ إلا ضعيف حيلة، يولدُ فيجدُ وجهةً هو موليها، لا هو مصطفيها ولا هيَ بحالَّةٍ عنه، يرى الجماعات حوله تتبعها فيلحق، يسألُ لِمَ ولا يُجاب. يقاوم، فيفشل، و...
يفشل، ويفشل، ويفشل.
“رُقعة“ ناديته لما رأيتُ طيفَ نابٍ يلوح في الأفق. “إنْ حدثَ وكنتَ قوتَ ليلتنا هذه، أنتركُ وجهك؟“ سألت أنظرُ في عينيه، فهزّ رأسه أيْ لا، “وجهَ مَن وأنا ضبعٌ بينَ ضباع؟ كُلُوه وانهشوه.“
“احذرِ المجاهرة“ حذّرته، قبل أن أعضَّ شيئًا من فروه وأجره معي معاكسًا لاتجاهِ نابٍ أركض به هاربًا.
صرخَ فيَّ رُقعةُ يسأل “ما معصيتي؟“ بعد أن صحح تخبط أقدامه ليعدو معي جنبًا إلى جنب، بعيدًا عن الغابة.
فأجبته، وزئير نابٍ الغاضبِ خلفنا يتوعد.
“الإذعان، رقعةُ ليس بخاضع“
أمامنا فسيحُ الأرض شاسع وخلفنا أسدٌ جائش، رقعة اختار أن ينظر للخلف، في أنيابِ نابٍ اللماعة، في المخالبِ البارزة وعانته المنفعلة.
“بلى، ومعتوه ما رضيَ بقدره وفطرته، تركَ قبيلته، وعصى سيده، ثمَّ أخلف وعده، ضبعٌ بطبيعته أصلًا وفصلًا“
“صدقتَ“ وافقته وعدْوِي يتخبص، ينقرُ زئيرُ نابٍ جسدي كنقرة النقار للخشب، “اعرف أنِّي موقن إن قتلني أمر هذا اليومَ فهو قلبي من الخوفِ لا مخالبَ ناب، وأنتَ يا رقعة علمتني أمرًا...
أنَّ ما تبغيه النفس يخالفُ ما تبغيه الطبيعة، يحدِّدُ نفسُكَ مرادكَ أنت، مرادَ رقعة، ويحدِّدُ طبيعتك أصلك ومراده وما فطرتَ عليه.
وأنايَ تريد منك الهرب، فماذا عن أناكَ، ما تريد؟“
“تريد العيش“ أجابَ خجلًا يكسو صوته العار، كان العيشُ مراده منذ عرفته، ألَّا يموتَ إلّا وعَرِفَ نفسه وعرَّفَ عليها.
ألَّا يموتَ إلا حرًّا.
“والعيشَ ما ستفعل، والعيشَ ما ستفعل“
النهاية.